كتاب الماشاء (هلابيل .. النسخة الأخيرة). . لا شيء ينتهي أبداً !





رواية "كتاب الماشاء" الصادرة عن دار المدى للروائي الجزائري سمير قسيمي، تبدأ جميع فصول هذه الرواية بالصورة النهائية للحدث المراد الوصول إليه ثم يأخذنا السرد إلى البداية التي أدت إلى هذا الحدث، ابتدأت الرواية بما يوحي أنه الصورة النهائية المراد الوصول إليها من النص هي محاولة معرفة مصير المقال المفقود من العدد الثالث لعام 1954 من المجلة الأفريقية بعنوان (الرحلة العجيبة لسيباستيان دي لا كروا.. من لورو إلى ظلال المرابو)، اكتشف اختفاء هذا المقال الباحثة ميشال دوبري والتي وصل إليها المجلد الحادي عشر من أرشيف المجلة الأفريقية عن طريق المؤرخ جيل مانسيرون والذي حصل عليه بدوره من جوليان هاد الذي أوكلت له مهمة أرشفة الأعداد من عام 1865. أدى البحث عن هذا المقال, عن أسباب فقده وتداعياتها لتطورات دراماتيكية أدت إلى وجود جثة الباحثة ميشال دوبري متفحمة في مسرح باتاكلان اثر هجومات باريس، وهكذا تبدأ رحلة التشويق و التي صنعها سمير قسيمي ببراعة حيث أنه أوضح النهاية من البداية، واعتماد هذه التقنية التي تبتعد عن السرد الزمني المتتابع لم تكن إلا ليزعزع قناعاتنا وإيماننا الواهم بأننا نستطيع تمييز البدايات والنهايات لأنه يعي ( أن الرضا بنقطة نسميها البداية ليست إلا تعارفاً بشريا يدَعي الإكتشاف) ولنعي بعد قراءة هذا النص أن (لا شيء ينتهي أبداً، ومع هذا لا بأس أن نتوهم النهاية لأي شيء).

لم يكن طريق هذا البحث إلا أنه يؤدي من لغز إلى لغز أكبر حتى أدى إلى اكتشاف مخطوط أدى بالسرد إلى الولوج في العمق التاريخي وبذلك أضاف على فكرة المخطوط التي يتكيء عليها السرد بعداً تاريخياً أضفى على النص واقعية تزيد من التشويق والإثارة لدى القاريء وتضعه على مفترق طرق بين الواقعي والمتخيل فنجد كثيرا من الوقائع التي حدثت إبان استعمار فرنسا للجزائر أسبابه، وتداعياته، نجد بعض الأحداث المؤلمة التي حصلت خلال تلك الفترة. من خلال هذا البعد سرد سمير قسيمي جزء من تاريخ بلده الجزائر ووحشية الاستعمار الفرنسي للبلاد بطريقه مختلفة وبلمسته الخاصة.

عادة ما يتطلب السير على طريق الحقيقة الكثير من التضحيات وهذا ما أدى لوقوع جريمة غامضة في سبيل قطع الطريق المؤدي للحقيقة، وبذلك أضيف للسرد بعداً آخر وهو البعد البوليسي من خلال  البحث والتحري، وأجد أن هذا البعد اضاف للرواية، وأخرجها من العمق الفلسفي العميق والذي قد يحصرها في نطاق نخبوي ضيق إلى فضاء تشويقي أكبر يلطف به أجواء القاريء الذي لم يعتد على قراءة هذا النوع من الأعمال. لأن هناك ثمت أناس يشعرون بالإنزعاج عندما تذكرهم بأنهم على قيد الحياة.

 يقول فريدريك نيتشه "الإعتقادات الراسخة هي أعداء الحقيقة، وهي أكثر خطراً من الأكاذيب"، ينقلنا سمير قسيمي من البعد النظري لهذه العبارة  إلى بعدها العملي بكل ما يحويه من عمق فلسفي فيجعلنا في مواجهة مع أكثر إعتقاداتنا رسوخاً فيهز اليقين والثوابت ليس لنقض عقائدنا ولكن لنعلم أن الإيمان الحق لا يتأتى إلا بالسؤال والبحث وأن المعرفة المتوارثة والتي نأخذها كمسلمات بدون تمحيص ما هي إلا (كفن لا يدخله النور، ولا تخرج منه العتمة) فكانت قصة بداية الخلق التي احتواها المخطوط المدخل الذي سيشعل فتيل الأسئلة في دواخلنا، فهل هناك أكثر رسوخاً من قصة خلق الإنسان وأصله؟ فبذلك تتفتق أسئلة الوجود الإنساني، أسئلة الحياة، أسئلة البداية والمصير، ماذا لو علمنا أن لقصة الخلق منظوراً آخر؟ ماذا لو علمنا أن لخروج آدم عليه السلام وزوجه من الجنة بعدا آخر؟ ماذا لو علمنا أن للجنة التي سكنها معنى آخر؟ هكذا يأخذنا هذا النص لرحلة طويلة تأتى من خلالها كشف (أكثر أسرار البشرية غرابة ودهشة)، كشف أسرار طائفة الوافديين الذين هم من نسل هلابيل بن آدم عليه السلام، هلابيل الذي لم يذكر التاريخ عنه شيئاً ولا عن ذريته لأنه (ثمرة شهوة خلقها العصيان) فقتلاه أبواه بالنسيان، ومن هنا كان هذا النص نصير المهمشين، نصير من نعتقد أنهم أقل شأناً من أن يسند لهم القدر المهام الجسام، يلقن غرورنا درساً يذكرنا أن الأنبياء كانوا ممن اعتقد قومهم أنهم ممن هم أقل شأناً، لذلك نجد أن شخوص هذه الرواية وجميع الأماكن لا تخرج من دائرة المهمش والمنبوذ فها هو قدور فراش يصف بؤسه فيقول عن ولادته (لم أحضر نفسي للخروج إلى هذا العالم أو الدخول إليه)، يقول (حين ولدت لم يشأ أبي أن يختار لي اسماً)، (لم أسمعه يتلفظ باسمي) وهكذا كان نكرة، وهكذا كان أخوه الأكبر السايح فراش (رجلاً هائماً على وجهه وزير نساء انتهت حياته بنحو مأساوي), (لم تكن جنازة السايح مهيبة، كانت كأي جنازة لرجل قطعت جذوره، ولولا بعض شحاذي الحسنات لسار وحيداً إلى قبره تماماً كما كان في حياته)، نوى شيرازي (أيضاً كانت عاهرة منبوذة من الجميع). تستدعي هذه الأحوال أن يراجع الإنسان نظرته لأخيه الإنسان، ألم نقرأ في الأثر "رب أشعث أغبر لو أقسم على الله لأبره"؟

أما عن الأماكن التي بُنيت أحداث الرواية من خلالها فكانت كذلك هامشية لا يرد في الخاطر أنها تحتضن سراً من أسرار البشرية، ها هي قرية بن يعقوب (صورة منقحة لقبيلة دون خيام. تعثرت الحضارة عند عتبتها ولم تلح على الدخول)، أما الرابوني (لم تكن قرية في الريف ولا واحة في صحراء، كانت كل ذلك دون أن تكون أيا منها).

كتاب الماشاء ببعده التاريخي أدى إلى تتبع منحنيات السرد والإلغازات التي تضمنها السرد طابع واقعي يبعد القاريء من الإنزعاج الذي قد يكون لو كانت هذه المتاهة ضمن أحداث غرائبية لا تصدق، أما البعد البوليسي أعطى السرد غموضاً أخفى غايته وشتت انتباه القاريء ابتداءً حتى يغرس الأدلة التي ستشير إلى غايته الفلسفية في نهاية المطاف. هكذا يثبت سمير قسيمي أنه قادر على وضعنا على فوهة بركان فكري عميق محافظاً على ثيمة الوجود والبعد النفسي الإنساني في جميع رواياته بالرغم أنها لا تتشابه إلا في إسم مؤلفها.

                                                                              
  

تعليقات

  1. اعتقد بأني ساقرأ هذا العمل الأدبي بعد هذه الإضاءة الفريدة على جنبات الماشاء

    ردحذف

إرسال تعليق

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

تاريخ المكتبات (١).. مكتبة إيبلا هي الأولى

توأم الروح