سيرة المنتهى … المشتهى



سيرة المنتهى حلقات متداخلة من سيرة الماضي و الحاضر و المستقبل ، سيرة المُتأمل و المُشتهى، سيرة الانسان و المكان و الفكرة. حلقات تربطها الفانتازيا، و لا يحكم اغلاقها إلا حرفة واسيني الأعرج. سيرة يغلب عليها الألم، و يزينها الأمل، و يغلفها الحب. ملامح الإنسان و كل ما يحمله من حب واضحة جلية. سيرة مدادها مضيء بشعاع الحرية، و بذلك ستصل رسالتها لكل إنسان رغماً عن أنوف المتربصين بنور الحرية و الحب، و مدعي الفضيلة و الملائكية، و هذا هو اليقين الذي كُتبت به هذه السيرة، حيث أن واسيني الأعرج كان يعلم تمام العلم ما سيكون فقال <سيغضب مني الكثيرون من سلالات اليقين و الجريمة، سيقولون عني إني وليت وجهي نحو غيب أكبر مني، و إني وطئته بلا إذن من كهنة اليقين، و سيلعنني الأئمة و حراس النوايا في كل صلواتهم، و تنفرني القبيلة>. عند الشروع في عمل ما بهذا اليقين فسيسقط عن كاهلك حِمل التوقعات و العواقب و ستجري الروح بما تجود بمداد من نور و ستكتب ما تشتهي كيفما تشتهي.

عشتها كما اشتهتني : عنوان فرعي يحمل وجهين، إما أنه عاش حياته كما اشتهته، أو أنه عاش سيرة المنتهى كما اشتهته. فإن كان المقصود سيرة المنتهى و هو الذي أراه، فالنص يشي بأنه عاش سيرة المنتهى كما اشتهى هو لا كما اشتهته. فالحياة التي نعيشها، نعيشها كما تشتهي هي قطعاً، أما عند وصول النهايات فدائماً ما نتمنى أن النهايات تكون كما نشتهي، و مع من نحب.

إبتدأ النهاية بما قبل البداية، بالجد الروخو الذي لم يراه و لكنه كان بذرة وجوده قطعاً. سمع عنه الكثير من الجدة حنا فاطنة، الجدة التي كانت كما يقول <معلمي الأول في هبل الحكاية فقد جعلتني أرى بعيني و عقلي كل من أكلتهم الحروب المقدسة و المنافي القلقة قبل خمسة قرون>. أحب جده الروخو بالفطرة فاشتهى رؤياه، فكما تستجلب أضغاث الأحلام ما تعتمره عقولنا، فالروح تشتهي استجلاب من تحب عند نهاياتها. فتظهر سيرة الأصول و الجذور، و جانباً من مأساة غرناطة و سقوط الأندلس، بطولة أهلها و مأساتهم. هل الخوف و البؤس يورّثان ؟ فلماذا هذا الجد بالذات، له وحده وجّه خوفه و طفولته العارية؟ فالنفس تميل إلى توأمها و إن كان في الخوف و إن اختلف الزمان و المكان و المسبب. و في فانتازيا رحلة البرزخ المُشتهى كانت سيرة الإنسان، و بحبكة باذخة استجلب الأم و الأب و الأخوة. فالذكريات لا يعلق بها إلا من نحب.

الأم أميزار و التي  يعني اسمها بالبربرية إلهة المطر، كانت له بالفعل كالمطر، فرَوت جفاف روحه بعد فقدان الأب الشهيد. الأم أميزار هي التي سعت لوجود واسيني اليوم. < بينما كنت أدرس ولكن لا حق لي في الدخول إلى المطعم إلا بوثيقة المنحة. عند مدخل ريفيكتوار ، مطعم التلاميذ، رأيتها تجلس على كرسي قديم، و تدلك على رجلها. عندما اقتربت منها قالت بإشراق: هاهي الورقة تستطيع الدخول بها. تعبت كثيرا. ثم نزعت حذاء الميكا البلاستيكي القاسي. رأيت بأم عيني يومها جلدة الرجل التحتية تنسحب من رجلها، و بقيت ملتصقة بالحذاء مخلفة وراءها بقعة حمراء من اللحم الحي. سلخ الجلد. لم تتأوه أبداً. بعد أن تحملت نزع حذائها. قالت و هي تكابر: ما عليّ والو يا حبيبي. أنا بخير. روح يا وليدي ربي يحفظك. اقرأ>  لو لم يذكر في سيرته عن الأم أميزار و تأثيرها عليه إلا هذا لكفى، و أوفى و أوقع بالنفس ما أوقع.

و تستمر الروح في الإرتقاء و الإنتقال من هنا و هناك في البرزخ المُشتهى تقابل من تحب فتعود الذكريات و تدور الحوارات راسمة خطوط هذه السيرة بكل من يحبهم واسيني الأعرج، بكل من كان له يد في رسم طريق حياته و تلوينها، و منهم مينا، الحب الذي نقش الكثير في روحه، فكانت لها من هذه السيرة وقفة، و أي وقفة. مينا المومس التي أحب، سيدة القلب و الروح و خيبات الدنيا. مينا التي في سرده لإحدى حالاتها الشعورية تتجلى بهيمية البشر و قسوة نفوسهم و انغلاق عقولهم، <عليّ أن أنسى أني جسد يحب و يكره، جسد ملك للآخرين. شيئا فشيئاً تعودت على البشر و أصبح جسدي يستقبل أناساً لا شيء يجمعني بهم أبداً، ولا حتى الرغبة. حتى الغريزة تموت و تحل محلها العادة التي لا طعم لها سوى فعل التكرار. كنت أتقيأ كثيرا بعد كل جماع، لكني مع الزمن تعودت لدرجة أن جسدي مات نهائياً>. فالمرأة لا تخرج عن فطرة وجودها الوحدوية في الحب و الجنس إلا اضطراراً و ليس اختياراً. فهذه المومس لم تكن إلا ضحية (لذكر) و ليس لرجل، فالمومسات في عالمنا أكاد أن أجزم أن سبب سقوطهن في الهاوية غالباً هم أشباه الرجال، بشكل مباشر أو غير مباشر. إن قلنا الفقر و الفاقة فسببها ذكر لم يرتقي للرجولة و ضيع من يعول، و إن افترضنا قسوة المجتمع، فالمجتمع ذكوري تحت سطوة الرجل، هو من يدخل هذه أو يخرج تلك من دائرة العفة و الشرف فلا مجال للزلة و الخطأ، فمن تخرج من هذه الدائرة محال أن تعود، و تناسوا لو لم يكن هناك زناة لما كان هناك مومسات. الله غفور رحيم و البشر لا يغفرون.و بذلك لا أجد لتبريره موقف علاقته بمينا في جزئية " بعض ما خفي من سيرة عشتها كما اشتهتني " أي مبرر، ولا أجد لتبرير أفعالها أيضا أي مبرر، فسيرتها لا تحتاج إلى إيضاح و إجلاء فهي واضحة جلية لمن كان له قلب و عقل. كانت ضحية، و أيضاً وفية لجلاديها و قاتليها حتى بعد توبتها. فلا مبرر  للحب، < فكل ما هو حب هو في الأصل من نفس الإله و كرمه و تجلياته>.

بعد كل هذه العوامل التي شكلت واسيني (الإنسان) نجد لتكوين واسيني (الأديب) في هذه السيرة وقفات، ابتداءً من كتاب ألف ليلة و ليلة الذي عثر عليه على رف المكتبة في خلفية المسجد الصغير فسرقته الدهشة حينها و أدخلته عوالم الأدب إلى رائعة الأدب العالمي "دون كيشوت" أو "دون كيخوتي" لسيرفانتس (و التي أتمنى أن يُوَحّد اسم النص هنا حتى يحافظ نص السيرة على وحدته البنيوية)، و إيماناً منه < أن بعض الكتب تشكل لنا مغامرة خاصة و كأنها لا تخص أحد غيرنا في الحياة، و كأنها كتبت لتروينا> فقد كان لسيرفانتس قدره من هذه السيرة التي دار في الحوار المُشتهى معه الكثير من التاريخ و الأمكنة و الأحاسيس ظهر فيها جلياً تأثير سيرفانتس على واسيني الأعرج و أعماله فكان للبيت الأندلسي حصتها كسبيل المثال لا الحصر، و هذا ما يثبت قناعة و اسيني الأعرج في <أن التماهي بيننا و بين من نعرف أو نخلق هو الدرجة الأولى في سلم الكتابة>. فيقول لسيرفانتس مخاطباً: <الكثير من عمران رواياتي يدين لهبلك الجميل> ، و يقول : <لولا دون كيشوت و قصصك و كتاباتك و أسرك لغابت أشياء كثيرة صنعت مخيلتي، ربما لكنت شيئاً آخر غير الذي أنا عليه اللحظة>.

و بذلك نجد أن سيرة المنتهى لم تكن سيرة واسيني الأعرج وحيداً و إنما سيرته و سِيَر من أحب و اشتهى بالطريقة التي اشتهى. فدائماً ما نتمنى أن نقابل من فقدناه فقط لنريح القلب من ثقل شيء لم يعطنا القدر الوقت لقوله.

كم كنت أتمنى لو أن جزئية " بعض ما خفي من سيرة عشتها كما اشتهتني " لم تكن موجودة، فقد أجهضت الكثير من الخيال في تأويل الطريقة الفنية لكتابة هذه السيرة، و قطعت الطريق أمام الكثير في تكوين صورة مختلفة عن المقصود الحقيقي لبعض الصور النصية، بالرغم أني أشعر أن هذا الجزء لم يكن إلا خوفاً منه على شعور من شملتهم سيرته، على القراء و المتابعين و المحبين، موضحاً لهم ما قد يلتبس عليهم و هذا لا يعكس إلا شاعرية و إحساس واسيني الأعرج. فبالرغم من قوله <لا أريد أن أقول كل شيء. للقاريء حقه في اكتشاف خفايا و سحر و أسرار الأشياء في لحظة قراءتها و التوغل في النص> إلا أن هذا الجزء و ضح الكثير.

و أخيراً شكراً لك أيتها الأم أميزار فقد وهبتنا كائناً سخياً يمنحنا قلبه دون أن يطالبنا بمقابل مشابه.


تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

رواية خرفان المولى (نظرة تحليلية للبنية النفسية للنص)

تاريخ المكتبات (١).. مكتبة إيبلا هي الأولى