الطوارق



الطوارق.. أولائك الملثمون الزرق, اللذين لا أعرف عنهم سوى هذا اللثام, و ذاك الكساء الأزرق و أنهم قوم يسكنون الصحراء, فيما عدا ذلك لا أعرف عنهم شيء, إلى أن ساقت الأقدار بين يدي رواية نادي الصنوبر للأستاذة ربيعة جلطي, و هي روائية من الجزائر.  الجزائر إحدى الدول التي يسكن الطوارق صحراءها. لن أتحدث عن الرواية و تفاصيلها ولكن سأسوق بين يديكم ما عرفته في متن هذه الرواية عن الطوارق و لكم أن تستكشفوا دراماتيكية الرواية إذا ما قارنتم حال الطوارق بحالنا اليوم, وهذه الفكرة التي يمكن أن أختزل فيها مضمون الرواية.

الشخصية المحورية في الرواية هي  (الحاجة عذرا) التي ساقت على لسانها ربيعة جلطي بأسلوبها العذب كل ما أمتعني عن الطوارق معرفته, إذ تقول : " نحن الطوارق مرآة لإسمنا الأصلي العريق (إيموهاغ) الإسم الذي ما زال يشبهنا و يدل علينا ((الأحرار)) .. نعم كلمة الأحرار تدل علينا". و من هنا من هذه الكلمة (الأحرار) ابدؤوا عقد المقارنات بين من هو حر و من هو ليس كذلك.

"من قال إننا انقرضنا و انقرضت ثقافتنا فقد كذب.. لن ننقرض إلا إذا انقرض الرمل أو انقرضت الشموس المتتالية بسخاء كل يوم" . 

الاستعمار الغاضب قسم  الصحراء و بكل حقد قسم أوصالها و استحدث حدوداً قلصت من حريات تنقل الطوارق, و برغم كل قوته و جبروته تقول الحاجة عذرا "لم يستطع أن يكسر دواخلنا و أن يمحو جوهرنا أن يبيد حقيقتنا, أو أن يضخ في نفوسنا و أجسادنا من روحه و ريحه. صحيح أنه قتل زعماءنا و شتت شملنا و لكنه لم يستطع أن يصل إلى قوتنا الداخلية و لم يفلح في تدمير اللؤلؤة العصية على الكسر داخلنا.. 

رجالنا فرسان زرق,  فالرجل المكتسي ذاك الرداء الأزرق المسمى (التقلموست), كل رجولته و قوته و جماله و فتنته تنبع مما يملكه في ذاته, من كرمه, من مروءته من ظله المنسحب بسخاء على الرمل, تحت الشموس المتلاحقة, من شجاعته و إقدامه و من أخلاقه العالية التي تلقنها له أمه و من فروسيته و بلائه الحسن في كل ما يواجه وجوده من أخطار, و من معرفته بأسرار الصحراء. 

و مع كل هذا الوصف للرجل الطارقي نجد أنه في مجتمع الطوارق ذاك, يزداد احترامه في مجتمعه كلما ازداد إحتراما و تقديراً للمرأة, كلما على شأنه أكثر بين قومه, و من يبدي منهم فظاظة تجاهها, أو من يمد يده عليها مهددا أو ضاربا فكأنه حكم على نفسه بأقصى عقاب, سيصبح مضحكة القوم, يتبرأ منه الجميع و يتجنبون حتى السلام عليه. فهذه أعرافهم .

 فالمرأة عندهم هي أغلى الكنوز تمثل الشرف المجسد لا تُنهر ولا تُقهر, و كرامتها لا تُهدر, و المساس بقيمتها إدانة لجوهر وجود الطوارق و لتاريخهم و كينونتهم, هي الذاكرة العتيقة الحية التي لا تفوتها شاردة ولا واردة. النساء عندهم هن الحافظات الصادقات لكل تفاصيل الحياة عبر الأيام و السنين, كيف لا و هي المعلم الأساس لحروفهم, فهي المدرسة الوحيدة لحروف (التيفيناغ) التي لولا المرأة التي تنقلها جيلاً بعد جيل على الرغم من توالي القرون لأصبحت في خبر كان, فبهذه الحروف حفظ الطوارق لغتهم (تماشاق). فبالحفاظ على اللغة, لن تموت أمة و لن تنقرض. فبذلك عرف الفارس الطارقي أن المرأة هي الوتد الأساسي في خيمة الطوارق, هي ملقنة الكلام, هي الشاعرة, هي العازفة, هي المغنية, و هي الحكيمة. فالطارقية تعيش في مجتمع تكاد أن تكون فيه مقدسة. لذلك ليس في تقاليد أهل الطوارق الجمع بين زوجتين. فالطارقية حرة الجسد و الروح و مرمى النظر. الطارقية لا تتعلم فنون الأنوثة فهي تولد بها و معها تدرك أسرارها بالسليقة  أنوثة الطارقيات أسطورة رمزية ورثوها عن (تينهينان) أول ملكة على قبائل الطوارق. الملكة التي جمعت بين الجمال و حكمة القيادة. 

أسرتني هذه (الحاجة عذرا) في كلامها ووصفها للطوارق شعرت و أنا أتنقل بين صفحات الرواية أنه لا ينقصني من المتعة إلا ذلك الإبريق من الأتاي الذي تغليه  فوق المجمر, مضافا إليه النعناع و (الشهيبة), فتعزف على آلة الإمزاد التي ذكرت أنها ذات وتر وحيد, فتمنيت لو أني اعرف كيف لهذا الإمزاد أن يعبر عن دواخلهم بوتر وحيد...


تعليقات

الأكثر قراءة

تاريخ اليهود منذ بدايتهم حتى تشتتهم على أيدي الرومان*

رواية خرفان المولى (نظرة تحليلية للبنية النفسية للنص)

باهَبَل مكة Multiverse - رجاء عالم