The Banshees of Inisherin

 

من خلال مهرجان البحر الأحمر السينمائي الثاني والذي أقيم في جدة من الأول إلى العاشر من ديسمبر ٢٠٢٢ كان لي تجربة حضور الفلم الايرلندي The Banshees of Inisherin  من بطولة كولن فاريل و بريندان غليسون، ويقع تحت تصنيف الكوميديا والدراما، ومن كتابة وإخراج Martin McDonagh.

 

الفلم يصور لنا من خلال شخصياته أنواع تعاطي البشر مع الظروف السائدة الذي جسدها مكان تصوير الفلم الذي يحمل رمزية خاصة، فهذا المكان النائي المنعزل يمثل ظروف الحياة المنعدمة فيها الفرص، يمثل المكان الذي تمضي فيه الأيام مكررة بتفاصيلها مما يضفي على الحياة رتابة يستسلم لها الكثير وينجرف معها، وشخصيات الفلم تمثل أنواع البشر في التعاطي مع أهدافهم وأحلامهم وفي طريقة كل شخص في إيجاد الطريقة المناسبة للوصول إلى هذه الأهداف في ظل هذه البيئة.  

 

يبدأ الفلم بملاحظة بادريك (كولن فاريل) بأن صديقه كولم (بريندان غليسون) لم يعد يريد الحديث معه ومن هنا تبدأ الحكاية في سعي بادريك لمعرفة سبب هذا الخصام وإصرار كولم على عدم الحديث معه.

Colin Farrell

بادريك (كولن فاريل) يمثل النوع الساذج من البشر، النوع الذي يغلب عليه الطيبة، وغياب الأهداف، لا يهتم إلا بقضاء يومه والحديث فيما لا يضر ولا ينفع أيضاً، مستسلم لرتابة حياته وروتينها. هذا النوع من الشخصيات قد يشتتك عن أهدافك، الحديث معه يسرق وقتك ويعطلك عن أهدافك وواجباتك (وقد يمثل هذا النوع من الأشخاص في يومنا هذا وسائل التواصل وما تسرقه من أوقاتنا إذا استسلمنا لها) لذلك قرر كولم (بريندان غليسون) بقرار حاسم وصارم أن يتوقف عن الحديث معه حتى يركز على أهدافه، فقد كان يريد أن يحقق شيئاً في حياته قبل أن يموت يريد أن يؤلف القطعة الموسيقية التي طالما حلم بتأليفها، وكان كولم هنا متطرفاً جداً في طريقة قطعه لعلاقته بصديقه حيث هدده بأن يقطع أصبعاً من أصابعه في كل مرة يحدثه فيها لأنه يرى أن الحديث معه يساوي فقده لأصابعه التي ستساعده في عزف قطعته الموسيقية. هذا النوع من الشخصيات، المتطرفون في قرار تسخير وقتهم لأهدافهم يمثل النوع الذي يقطع علاقته بأصدقائه، وأسرته ومجتمعه من أجل أهدافه، وقطع الأصابع أرى من وجهة نظري أنها صورة رمزية لما يفقده هذا النوع من الأشخاص، يفقدون أجزاء من أنفسهم من أرواحهم من أجل الحصول على أهدافهم. هل سيصلون إليها؟ نعم سيصلون، ولكن بعد فقد الكثير، مما يجعلهم أشخاصاً مشوهين، معطوبين بصورة أو بأخرى. 

Brendan Gleeson

 

لكن ما هي الطريقة التي يجب أن نتعامل فيها مع حياتنا الخاصة، وأهدافنا بحيث لا نخسر لا هذا ولا ذاك؟ هذا النوع من الشخصيات تمثله الفنانة كيري كوندان (Kerry Condon) فبالرغم من أنها تعيش في نفس البيئة مع أخيها بادريك إلا أنها لم تستسلم للحياة البائسة الفقيرة، لم تستسلم للجزيرة النائية وما قد يحدثه أسلوب الحياة الرتيب فيها إلى دنو الهمة ومجاراة التيار، بل أنها ثقفت نفسها بالقراءة، تسعى للتعلم وتحقيق أهدافها بتوازن يجعلها في نفس الوقت تهتم بأخيها وشؤونه، تعامله بلطف بقدر ما تستطيع بالرغم من سذاجته، حتى بعد حصولها على فرصة العمل خارج هذه الجزيرة إلا أنها لم تتوقف عن التواصل معه والسؤال عنه وحثه على اللحاق بها، حققت أهدافها بالصبر، باللطف، بحفاظها على معنى الأسرة والحياة الاجتماعية. 

Kerry Condon

 

جسد كولن فاريل دوره ببراعة مبهرة، جسد الوحدة التي قد يصل إليها الإنسان في دوامة هذه الحياة إذا اختار أن يبقى على هامش الحياة، وسار مع تيار الحياة الرتيب بدون أي هدف ففي لحظة ما سيتركه من حوله لأهدافهم الخاصة وإن استمتعوا برفقته في يوم ما، من هذه الشخصية نتعلم ألا نجعل حياتنا تقف على شخص ما بالكلية، فبادريك كان يومه يعتمد على أحاديثه الفارغة مع كولم، ولكن عندما قرر كولم التوقف عن الحديث معه والالتفات لأهدافه وجد نفسه وحيداً بائساً لأنه لا يمتلك أي خطط خاصة به. ليس له أصدقاء سوى حيواناته الأليفة، وهذا قد يرمز إلى ما قد يصل به الإنسان حينما يصر على التفاهة وانعدام السعي لتحقيق الذات من فقد لإنسانيته.

 

الفلم بالرغم من الدراما العميقة التي يجسدها إلا أنه لا يخلو من كوميديا تلطف أجواء هذه الدراما وتكسر رتابة الجزيرة النائية التي جسدها مكان تصوير الفلم بامتياز. الفلم يجعلنا أمام أسئلة كثيرة في طريقة استجابتنا للفرص وطريقة تعاطينا مع أهدافنا وحياتنا الاجتماعية، ففي ظل الحياة المادية التي جعلت الإنسان كالآلة من جهة، والتفاهة المتفشية من جهة أخرى والتي جعلت جزءاً آخر من الأشخاص في فراغ وضياع، يجب أن نجد الطرق المثلى للحفاظ على إنسانيتنا باحترام عقلنا الواعي كبشر بتحقيق ذواتنا بما لا يخل أيضاً بواجبات الأسرة والمجتمع.

لمتابعة قناة حرم الجمال (يوتيوب) انقر هنا 

لمتابعة قناة حرم الجمال (تيليجرام) انقر هنا 

بودكاست حرم الجمال (ساوند كلاود) انقر هنا

بودكاست حرم الجمال (أپل بودكاست) انقر هنا